لا تغضبْ
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ .
أوصى أحد أصحابه فقال : (( لا تغضبْ ، لا تغضبْ ، لا تغضبْ )) .
وغضب رجلٌ عنده فأمرهُ أنْ يستعيذ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ .
وقال تعالى : ﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾ ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ .
إنَّ ممَّا يورِثُ الكَدَرَ والهمَّ والحزن الحِدَّةُ والغضبُ ، وله أدواءٌ عند المصطفى .
منها : مجاهدةُ الطبعِ على تركِ الغَضَبِ ، ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾ ، ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ .
ومنها : الوضوءُ ، فإنَّ الغَضَبَ جمرةٌ من النارِ ، والنارُ يطفئُها الماءُ ، (( الطهورُ شطْرُ الإيمانِ )) ، (( الوضوءُ سلاحُ المؤمنِ )) .
ومنها : إذا كان واقفاً أن يجلس ، وإذا كان جالساً أن يضطجع .
منها : أنْ يسكت فلا يتكلمُ إذا غضِب .
ومنها أيضاً : أن يتذكر ثواب الكاظمين لغيظِهم ، والعافين عن الناسِ المسامحين .
***************************************
وِرْدٌ صباحيٌّ
وسوف أخبرُك بورْد من الأذكارِ تداومُ عليه كلَّ صباحٍ ، ليجلب لك السعادة ، ويحفظك منْ شرِّ شياطينِ الإنسِ والجنَّ ، ويكون لك عاصِماً طِيلة يومِك حتى تُمسي .
منْ هذهِ الأدعيةِ ، وهي التي صحَّتْ عنه :
1. أصبحنا وأصبح الملكُ للهِ ، والحمدُ للهِ ، ولا إله إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريك لهُ ، لهُ الملكُ وله الحمدُ ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ . ربِّ أسألُك خَيْرَ ما في هذه الليلةِ ، وخَيْرَ ما بعدها ، وأعوذُ بك منْ شرِّ هذه الليلةِ وشرِّ ما بعدها ، ربِّ أعوذُ بك من الكسلِ وسُوءِ الكبِرِ ، ربِّ أعوذُ بك منْ عذابٍ في النارِ وعذابٍ في القبرِ )) .
2. وحديثُ : (( اللهمَّ عالم الغيبِ والشهادةِ ، فاطر السماواتِ والأرضِ ، ربَّ كلِّ شيء ومليِكه ، أشهدُ أنْ لا إله إلا أنت ، أعوذُ بك منْ شرِّ نفسي ، وشرِّ الشيطانِ وشركهِ ، وأنْ أقترف على نفسي سوءاً أو أجرَّه إلى مسلمٍ )).
3. وحديثُ : (( بسمِ اللهِ الذي لا يضرُّ مع اسمِه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ ، وهو السميعُ العليمُ )) . ثلاث مراتٍ .
4. (( اللهمَّ إني أصبحتُ أشهدُك وأشهدُ حملة عرشِك وملائكتك وجميع خلقِك أنك أنت اللهُ لا إله إلاَّ أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنَّ محمداً عبدُك ورسولُك )) . أربع مرات .
5. ((اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أشرك بك شيئاً وأنا أعلمُ ، وأستغفرُك لما لا أعلمُ)).
6. (( أصبحنا على فِطْرةِ الإسلامِ ، وعلى كلمةِ الإخلاصِ ، وعلى دينِ نبيِّنا محمدٍ ، وعلى ملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين )) .
7. (( سبحان اللهِ وبحمدهِ : عَدَدَ خَلْقِهِ ، ورضا نفسِهِ ، وزِنه عرشِهِ ، ومِداد كلماتِهِ )) . ثلاث مراتٍ .
8. (( رضيتُ باللهِ رَبّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ نبياً )) . ثلاث مراتٍ .
9. (( أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ منْ شرُ ما خَلَقَ )) . ثلاثاً في المساء .
10. (( اللهمّ بك أصبحْنا ، وبك أمسنا ، وبك نحْيا ، وبك نموتُ ، وإليك النشورُ )) .
11. (( لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك لهُ ، لهُ المُلْكُ ولهُ الحمْدُ ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ )) . مائة مرة .
*********************************
وقفـــة
يقولُ ابنُ القيِّم : (( أجمع العارفون بالله على أنَّ الخِذْلان : أنْ يكلك اللهُ على نفسِك ، ويُخلِّي بينك وبينها . والتوفيقُ أنْ لا يكِلك اللهُ إلى نفسِك .
فالعبيدُ متقلِّبون بين توفيقهِ وخذلانِهِ ، بلِ العبدُ في الساعةِ الواحدةِ ينالُ نصيبه منْ هذا وهذا ، فيطيعهِ ويُرضيهِ ، ويذكرُه ويشكرُه بتوفيقِه له ، ثم يعصيهِ ويخالفُه ، ويُسْخِطُه ويغفلُ عنه بخذلانِهِ له ، فهو دائرٌ بين توفيقِه وخِذْلانِهِ .
فمتى شهِد العبدُ هذا المشهد وأعطاهُ حقَّه ، علِم شِدَّة ضرورتِه وحاجتِه إلى التوفيق في كلِّ نَفَسٍ وكلِّ لحظةٍ وطرْفةِ عيْنٍ ، وأنَّ إيمانه وتوحيده بيدِهِ تعالى ، لو تخلَّى عنه طرفة عينٍ لَثُلَّ عَرْشُ توحيدِه ، ولخَرَّتْ سماءُ إيمانِهِ على الأرضِ ، وأنَّ الممسك له : هو منْ يمسك السماء أنْ تقع على الأرضِ إلا بإذنِهِ )) .
*****************************************
القرآنُ .. الكتابُ المباركُ
ومنْ أسبابِ السعادةِ وانشراحِ الصدرِ قراءةُ كتابِ اللهِ بتدبُّرٍ وتمعُّنٍ وتأمُّلٍ ، فإنَّ الله وَصَفَ كتابه بأنه هدىً ونورٌ وشفاءٌ لما في الصدورِ، ووصفه بأنه رحمةٌ، ﴿ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ ، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ ، ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ .
قال بعضُ أهلِ العِلْمِ : مباركٌ في تلاوتِهِ ، والعملِ به ، وتحكيمِه والاستنباطِ منه .
وقال أحدُ الصالحين : أحسسْتُ بغمٍّ لا يعلمهُ إلا اللهُ ، وبهمٍّ مقيمٍ ، فأخذتُ المصحف وبقيتُ أتلو ، فزال عني – والله – فجأةً هذا الغمُّ ، وأبدلني اللهُ سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدرِ . ﴿ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ ، ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ﴾ ، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ .
****************************************
لا تحرصْ على الشهرةِ
فإنَّ لها ضريبةً من الكدرِ والهمِّ والغمِّ
مما يشتتُ القلب ويكدِّرُ صفاءه واستقراره وهدوءه : الحرصُ على الظهورِ والشهرةِ ، وطلبِ رضا الناسِ ، ﴿ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً ﴾ .
ولذلك قال أحدُهم بالمقابلِ :
مَنْ أخمل النفس أحياها وروَّحها
ولم يبتْ طاوياً منها على ضجرِ
إنَّ الرياح إذا اشتدَّتْ عواصفُها
فليس ترمي سوى العالي منَ الشجرِ
((منْ راءى راءى اللهُ بهِ ، ومنْ سمَّع سمَّع اللهُ بهِ)) . ﴿ يُرَآؤُونَ النَّاسَ ﴾ ، ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ ، ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ﴾.
ثوبُ الرياءِ يشِفُّ عمَّا تحتهُ
فإذا التْحفْت بهِ فإنَّك عاري
***********************************
الحياةُ الطيبةُ
من القضايا الكبرى المسلَّمةِ أنَّ أعظم هذه الأسبابِ التي أكتبُها هنا في جلبِ السعادةِ هو الإيمانُ باللهِ ربِّ العالمين ، وأنَّ السباب الأخرى والمعلوماتِ والفوائد التي جمعتْ إذا أُهديتْ لشخصٍ ولم يحصلْ على الإيمانِ باللهِ ، ولم يحُزْ ذلك الكنْز ، فلنْ تنفعه أبداً ، ولا تفيده ، ولا يتعبْ نفسه في البحثِ عنها .
إنَّ الأصل الإيمانُ باللهِ ربّاً ، وبمحمدٍ نبيّاً ، وبالإسلامِ ديناً .
يقولُ إقبالُ الشاعرُ :
إنما الكافرُ حيرانُ له الآفاقُ تِيهْ
وأرى المؤمن كوناً تاهتِ الآفاقُ فيِه
وأعظمُ منْ ذلك و أصدقُ ، قولُ ربِّنا سبحانه : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ .
وهناك شرطان :
الإيمانُ باللهِ ، ثمَّ العملُ الصالحُ ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ .
وهناك فائدتان :
الحياةُ الطيبةُ في الدنيا والآخرةِ ، والأجرُ العظيمُ عند اللهِ سبحانهُ وتعالى ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ .
********************************
البلاءُ في صالحِك
لا تجزعْ من المصائبِ ، ولا تكترثْ بالكوارثِ ، ففي الحديثِ : (( إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم ، فمنُ رضي فلهُ الرضا ، ومنْ سخط فَلَهُ السخطُ )) .
**************************************
عبوديةُ الإذعانِ والتسليمِ
ومنْ لوازمِ الإيمانِ أنْ ترضى بالقدرِ خيرهِ وشرِّهِ ، ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ . إنَّ الأقدار ليستْ على رغباتِنا دائماً وإنما بقصورِنا لا نعرفُ الاختيار في القضاءِ والقدرِ ، فلسْنا في مقامِ الاقتراحِ ، ولكننا في مقامِ العبوديِّةِ والتسليمِ .
يُبتلى العبدُ على قدرِ إيمانه ، (( أُوعكُ كما يُوعَكُ رجلان منكمْ )) ، (( أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ، ثمَّ الصالحون )) ، ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ ، (( مَن يردِ اللهُ بهِ خيراً يصبْ منهُ )) ، ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ ، ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ .
****************************************
مِن الإمارة إلى النجارة
عليُّ بنُ المأمون العباسي – أميرٌ وابنُ خليفة – كان يسكنُ قصراً فخماً ، وعندهُ الدنيا مبذولةٌ ميسَّرةٌ ، فأطلَّ ذات يومٍ منْ شرفةِ القصرِ ، فرأى عاملاً يكدحُ طِيلةَ النهارِ ، فإذا أضحى النهارُ توضَّأ وصلَّى ركعتين على شاطئ دِجلة ، فإذا اقترب الغروبُ ذهب إلى أهلِه ، فدعاهُ يوماً من الأيامِ فسألهُ فأخبره أن له زوجةً وأختين وأُمّاً يكدحُ عليهنَّ ، وأنه لا قوت لهُ ولا دخل إلا ما يتكسبُه من السوقِ ، وأنه يصومُ كلَّ يومٍ ويُفطرُ مع الغروبِ على ما يحصلُ ، قال : فهلْ تشكو منْ شيءٍ ؟ قال : لا والحمدُ للهِ ربِّ العالمين . فترك القصر ، وترك الإمارة ، وهام على وجههِ ، ووُجد ميتاً بعد سنواتٍ عديدةٍ وكان يعملُ في الخشب جهة خرسان ؛ لأنهُ وجد السعادة في عملِه هذا ، ولم يجدْها في القصرِ ، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ﴾ .
يذكِّرني هذه بقصةِ أصحاب الكهفِ ، الذين كانوا في القصور مع الملكِ ، فوجدُوا الضيقَ ، ووجدوا التشتُّتَ ، ووجدوا الاضطرابَ ؛ لأنَّ الكفر يسكنُ القصر ، فذهبوا ، وقال قائلُهم : ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً ﴾ .
لبيتٌ تخفقُ الأرياحُ فيهِ
أحبُّ إليَّ مِنْ قصْرٍ منيفِ
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ ...
والمعنى : أن المحلَّ الضيَّق مع الحبِّ والإيمانِ ، ومع المودَّةِ يتَّسعُ ويتحمَّلُ الكثير ، ((جفانُنا لضيوفِ الدار أجفانُ )) .
****************************************
منْ أسبابِ الكدرِ والنكدِ مجالسةُ الثقلاءِ
قال أحمدُ : الثقلاءُ أهلُ البدعِ . وقيلَ : الحمقى . وقيل الثقيلُ : هو ثخينُ الطبعِ ، المخالفُ في المشربِ ، الباردُ في تصرفاتِه ، ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ ، ﴿ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾ .
قال الشافعيَّ عنهمْ : إنَّ الثقيل ليجلسُ إليَّ فأظنُّ أنَّ الأرض تميلُ في الجهةِ التي هو فيها.
وكان الأعمشُ إذا رأى ثقيلاً ، قال : ﴿ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ﴾ .
لا بأس بالقومِ مِنْ طُولٍ ومِنْ قِصرٍ
جِسْمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ
وكان ابنُ تيمية إذا جالس ثقيلاً ، قال : مجالسةُ الثقلاءِ حمَّى الربْعِ، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ . ﴿ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ﴾ . ((مثلُ الجليسِ السيّئِ كنافخ الكيرِ)) . إنَّ مِن اثقلِ الناسِ على القلوبِ العرِيَّ من الفضائلِ الصغير في المُثُلِ، الواقف على شهواتِه ، المستسلم لرغباتِه، ﴿ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ .
قال الشاعرُ :
أنت يا هذا ثقيلٌ وثقيلٌ وثقيلْ
أنت في المنظرِ إنسانٌ وفي الميزان فِيلْ
قال ابنُ القيمِ : إذا ابتُليت بثقيلٍ ، فسلِّم له جسمك ، وهاجرْ بروحِك ، وانتقلْ عنهُ وسافرْ ، وملِّكْه أذناً صمَّاء ، وعيْناً عمياءَ ، حتى يفتح اللهُ بينك وبينه . ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ .
**********************************
إلى أهلِ المصائبِ
في الحديثِ الصحيحِ : (( منْ قبضتُ صفيَّهُ من أهلِ الدُنْيا ثمَّ احْتَسَبَهُ عوضتهُ منه الجنة )) . رواه البخاري .
وكانتْ في حياتِك لي عظاتٌ
فأنت اليوم أوعظُ منك حيّاً
وفي الحديثِ الصحيح : (( من ابتليتُه بحبيبتيْهِ ( أي عينيْهِ ) عوضتُه منهما الجنة )) . ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ .
وفي حديثٍ صحيحٍ : (( إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – إذا قبض ابن العبدِ المؤمنِ قال للملائكةِ : قبضتُم ابن عبدي المؤمنِ ؟ قالُوا : نعمْ . قال : قبضتُهمْ ثمرة فؤادِه ؟ قالوا : نعم . قال : ماذا قال عبدي ؟ قالوا : حَمَدَكَ واسترجَعَ . قال : ابْنُوا لعبدي بيتاً في الجنةِ ، وسمُّوه بَيْتَ الحَمْدِ )) . رواه الترمذي .
وفي الأثرِ : يتمنَّى أناسٌ يوم القيامةِ أنَّهمْ قُرِضوا بالمقارضِ ، لمِا يروْن منْ حُسْنِ عُقبى وثوابِ المصابين . ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ، ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ ، ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ ، ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ﴾ ، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ .
وفي الحديثِ : (( إنَّ عِظَمَ الجزاءِ منْ عِظمِ البلاءِ ، وإنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهمْ ، فمنْ رضي فلهُ الرَّضا ، ومنْ سخِط فلُه السخطُ )) . رواه الترمذي .
إنَّ في المصائبِ مسائلَ : الصبرَ والقدرَ والأجرَ ، وليعلمِ العبدُ انَّ الذي أخذ هو الذي أعطى ، وأنَّ الذي سلب هو الذي منح، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ .
وما المالُ والأهلون إلا ودِيعةٌ
ولابدَّ يوماً أنْ تُردَّ الودائعُ
************************************
مشاهد التوحيد
إنَّ منْ مشاهدِ التوحيدِ عند الأذيَّةِ ( استقبالِ الأذى من الناسِ ) أموراً :
أولُها مشهدُ العَفْوِ : وهو مشهدُ سلامةِ القلبِ ، وصفائهِ ونقائِه لمنْ آذاك ، وحبُّ الخيرِ وهي درجةٌ زائدةٌ . وإيصالُ الخَيْرِ والنَّفعِ له ، وهي درجة أعلى وأعظمُ ، فهي تبدأ بكظْمِ الغَيْظِ ، وهو : أنْ لا تُؤذي منْ آذاك ، ثمَّ العفو ، وهو أنْ تسامحهُ ، وأنْ تغفرَ له زلَّتهُ . والإحسانِ ، وهو : أنْ تبادله مكان الإساءةِ منه إحساناً منك ، ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ ، ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ .
وفي الأثرِ : (( إنَّ الله أمرني أنْ أصِلَ منْ قطعني ، وأنْ أعفو عمَّنْ ظلمنِي وأنْ أُعطي منْ حَرَمَنِي )) .
ومشهدُ القضاءِ : وهي أنْ تعلم أنه ما آذاك إلا بقضاءٍ من اللهِ وقَدَرٍ ، فإنَّ العبد سببٌ من الأسبابِ ، وأنَّ المقدر والقاضي هو اللهُ ، فتسلِّمَ وتُذْعن لمولاك .
ومشهدُ الكفارةِ : وهي أنَّ هذا الأذى كفارةٌ منْ ذنوبك وحطٌّ منْ سيئاتِك ، ومحوٌ لزلاّتِك ، ورفعةٌ لدرجاتِك ، ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ .
من الحكمةِ التي يؤتاها كثيرٌ من المؤمنين ، نَزْعُ فتيلِ العداوةِ ، ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ ، (( المسلمُ منْ سلِم المسلمون منْ لسانِه ويدهِ )) .
أيْ : أن تَلْقَى منْ آذاك بِبِشر وبكلمةٍ لينةٍ ، وبوجهٍ طليقٍ ، لتنزع منهُ أتون العداوةِ ، وتطفئ نار الخصومِة ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ .
كٌن ريِّق البِشْرِ إنَّ الحُرَّ شيمتُهُ
صحيفةٌ وعليها البِشْرُ عنوانُ
ومنْ مشاهدِ التوحيدِ في أذى منْ يؤذيك :
مشهدُ معرفةِ تقصيرِ النفسِ : وهو انَّ هذا لم يُسلَّطِ عليك إلا بذنوبٍ منك أنت ، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾
وهناك مشهدٌ عظيمٌ ، وهو مشهدٌ تحمدُ الله عليهِ وتشكرُه ، وهو : أنْ جعلك مظلوماً لا ظالماً .
وبعضُ السلفِ كان يقولُ : اللهمَّ اجعلْني مظلوماً لا ظالماً . وهذا كابنْيْ آدم ، إذ قال خيرُهما : ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
وهناك مشهدٌ لطيفٌ آخرُ ، وهو : مشهدُ الرحمةِ وهو : إن ترْحَمَ منْ آذاك ، فإنهُ يستحقُّ الرحمةَ ، فإنَّ إصراره على الأذى ، وجرأته على مجاهرةِ اللهِ بأذيةِ مسلمٍ : يستحقُّ أن ترقَّ لهُ ، وأنْ ترحَمَهُ ، وأنْ تنقذه من هذا ، (( انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً )) .
ولمَّا آذى مِسْطَحٌ أبا بكرٍ في عِرْضِهِ وفي ابنتِهِ عائشة ، حلف أبو بكرٍ لا ينفقُ على مسطحٍ ، وكان فقيراً ينفقُ عليه أبو بكرٍ ، فأنزل اللهُ : ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ . قال أبو بكرٍ : بلى أُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي . فأعاد له النفقة وعفا عنهُ .
وقال عيينهُ بنُ حِصْنٍ لعمر : هيهِ يا عمرُ ؟ والله ما تعطينا الجَزْلَ ، ولا تحكمُ فينا بالعدْلِ . فهمّ به عمرُ ، فقال الحرُّ بنُ قيس : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الله يقول : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ ، قال : فواللهِ ما جاوزها عمرُ ، وكان وقَّفاً عند كتابِ اللهِ .
وقال يوسُفُ إخوتِهِ : ﴿ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ .
وأعلنها في الملأِ فيمنْ آذاهُ وطرده وحاربه منْ كفارِ قريش ، قال : (( اذهبُوا فأنتمُ الطلقاءُ )) قالها يوم الفتحِ ، وفيِ الحديثِ : (( ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسه عندَ الغضبِ )) .
قال ابنُ المباركِ :
إذا صاحبت قوماً أهل وُدٍّ
فكْن لهمُ كذي الرَّحِمِ الشفيقِ
ولا تأخذْ بزلَّةِ كلِّ قومٍ
فتبقى في الزمانِ بلا رفيقِ
قال بعضُهم : موجودٌ في الإنجيل : اغفرْ لمنْ أخطأ عليك مرةً سبع مراتٍ ﴿ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾
أيْ : منْ أخطأ عليك مرةً فكرِّرْ عليه العَفْوَ سبع مراتٍ ، ليسلم لك دينُك وعِرْضُك ، ويرتاح قلبُك ، فإنَّ القَصَاصَ منْ أعصابِك ومنْ دمِك ، ومنْ نومِك ومنْ راحتِك ومنْ عِرضِك ، وليس من الآخرين .
قال الهنودُ في مثلٍ لهم : « الذي يقهرُ نفسه : أشجعُ من الذي يفتحُ مدينةً » . ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ﴾ .
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ .
أوصى أحد أصحابه فقال : (( لا تغضبْ ، لا تغضبْ ، لا تغضبْ )) .
وغضب رجلٌ عنده فأمرهُ أنْ يستعيذ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ .
وقال تعالى : ﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾ ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ .
إنَّ ممَّا يورِثُ الكَدَرَ والهمَّ والحزن الحِدَّةُ والغضبُ ، وله أدواءٌ عند المصطفى .
منها : مجاهدةُ الطبعِ على تركِ الغَضَبِ ، ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾ ، ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ .
ومنها : الوضوءُ ، فإنَّ الغَضَبَ جمرةٌ من النارِ ، والنارُ يطفئُها الماءُ ، (( الطهورُ شطْرُ الإيمانِ )) ، (( الوضوءُ سلاحُ المؤمنِ )) .
ومنها : إذا كان واقفاً أن يجلس ، وإذا كان جالساً أن يضطجع .
منها : أنْ يسكت فلا يتكلمُ إذا غضِب .
ومنها أيضاً : أن يتذكر ثواب الكاظمين لغيظِهم ، والعافين عن الناسِ المسامحين .
***************************************
وِرْدٌ صباحيٌّ
وسوف أخبرُك بورْد من الأذكارِ تداومُ عليه كلَّ صباحٍ ، ليجلب لك السعادة ، ويحفظك منْ شرِّ شياطينِ الإنسِ والجنَّ ، ويكون لك عاصِماً طِيلة يومِك حتى تُمسي .
منْ هذهِ الأدعيةِ ، وهي التي صحَّتْ عنه :
1. أصبحنا وأصبح الملكُ للهِ ، والحمدُ للهِ ، ولا إله إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريك لهُ ، لهُ الملكُ وله الحمدُ ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ . ربِّ أسألُك خَيْرَ ما في هذه الليلةِ ، وخَيْرَ ما بعدها ، وأعوذُ بك منْ شرِّ هذه الليلةِ وشرِّ ما بعدها ، ربِّ أعوذُ بك من الكسلِ وسُوءِ الكبِرِ ، ربِّ أعوذُ بك منْ عذابٍ في النارِ وعذابٍ في القبرِ )) .
2. وحديثُ : (( اللهمَّ عالم الغيبِ والشهادةِ ، فاطر السماواتِ والأرضِ ، ربَّ كلِّ شيء ومليِكه ، أشهدُ أنْ لا إله إلا أنت ، أعوذُ بك منْ شرِّ نفسي ، وشرِّ الشيطانِ وشركهِ ، وأنْ أقترف على نفسي سوءاً أو أجرَّه إلى مسلمٍ )).
3. وحديثُ : (( بسمِ اللهِ الذي لا يضرُّ مع اسمِه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ ، وهو السميعُ العليمُ )) . ثلاث مراتٍ .
4. (( اللهمَّ إني أصبحتُ أشهدُك وأشهدُ حملة عرشِك وملائكتك وجميع خلقِك أنك أنت اللهُ لا إله إلاَّ أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنَّ محمداً عبدُك ورسولُك )) . أربع مرات .
5. ((اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أشرك بك شيئاً وأنا أعلمُ ، وأستغفرُك لما لا أعلمُ)).
6. (( أصبحنا على فِطْرةِ الإسلامِ ، وعلى كلمةِ الإخلاصِ ، وعلى دينِ نبيِّنا محمدٍ ، وعلى ملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين )) .
7. (( سبحان اللهِ وبحمدهِ : عَدَدَ خَلْقِهِ ، ورضا نفسِهِ ، وزِنه عرشِهِ ، ومِداد كلماتِهِ )) . ثلاث مراتٍ .
8. (( رضيتُ باللهِ رَبّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ نبياً )) . ثلاث مراتٍ .
9. (( أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ منْ شرُ ما خَلَقَ )) . ثلاثاً في المساء .
10. (( اللهمّ بك أصبحْنا ، وبك أمسنا ، وبك نحْيا ، وبك نموتُ ، وإليك النشورُ )) .
11. (( لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك لهُ ، لهُ المُلْكُ ولهُ الحمْدُ ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ )) . مائة مرة .
*********************************
وقفـــة
يقولُ ابنُ القيِّم : (( أجمع العارفون بالله على أنَّ الخِذْلان : أنْ يكلك اللهُ على نفسِك ، ويُخلِّي بينك وبينها . والتوفيقُ أنْ لا يكِلك اللهُ إلى نفسِك .
فالعبيدُ متقلِّبون بين توفيقهِ وخذلانِهِ ، بلِ العبدُ في الساعةِ الواحدةِ ينالُ نصيبه منْ هذا وهذا ، فيطيعهِ ويُرضيهِ ، ويذكرُه ويشكرُه بتوفيقِه له ، ثم يعصيهِ ويخالفُه ، ويُسْخِطُه ويغفلُ عنه بخذلانِهِ له ، فهو دائرٌ بين توفيقِه وخِذْلانِهِ .
فمتى شهِد العبدُ هذا المشهد وأعطاهُ حقَّه ، علِم شِدَّة ضرورتِه وحاجتِه إلى التوفيق في كلِّ نَفَسٍ وكلِّ لحظةٍ وطرْفةِ عيْنٍ ، وأنَّ إيمانه وتوحيده بيدِهِ تعالى ، لو تخلَّى عنه طرفة عينٍ لَثُلَّ عَرْشُ توحيدِه ، ولخَرَّتْ سماءُ إيمانِهِ على الأرضِ ، وأنَّ الممسك له : هو منْ يمسك السماء أنْ تقع على الأرضِ إلا بإذنِهِ )) .
*****************************************
القرآنُ .. الكتابُ المباركُ
ومنْ أسبابِ السعادةِ وانشراحِ الصدرِ قراءةُ كتابِ اللهِ بتدبُّرٍ وتمعُّنٍ وتأمُّلٍ ، فإنَّ الله وَصَفَ كتابه بأنه هدىً ونورٌ وشفاءٌ لما في الصدورِ، ووصفه بأنه رحمةٌ، ﴿ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ ، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ ، ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ .
قال بعضُ أهلِ العِلْمِ : مباركٌ في تلاوتِهِ ، والعملِ به ، وتحكيمِه والاستنباطِ منه .
وقال أحدُ الصالحين : أحسسْتُ بغمٍّ لا يعلمهُ إلا اللهُ ، وبهمٍّ مقيمٍ ، فأخذتُ المصحف وبقيتُ أتلو ، فزال عني – والله – فجأةً هذا الغمُّ ، وأبدلني اللهُ سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدرِ . ﴿ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ ، ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ﴾ ، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ .
****************************************
لا تحرصْ على الشهرةِ
فإنَّ لها ضريبةً من الكدرِ والهمِّ والغمِّ
مما يشتتُ القلب ويكدِّرُ صفاءه واستقراره وهدوءه : الحرصُ على الظهورِ والشهرةِ ، وطلبِ رضا الناسِ ، ﴿ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً ﴾ .
ولذلك قال أحدُهم بالمقابلِ :
مَنْ أخمل النفس أحياها وروَّحها
ولم يبتْ طاوياً منها على ضجرِ
إنَّ الرياح إذا اشتدَّتْ عواصفُها
فليس ترمي سوى العالي منَ الشجرِ
((منْ راءى راءى اللهُ بهِ ، ومنْ سمَّع سمَّع اللهُ بهِ)) . ﴿ يُرَآؤُونَ النَّاسَ ﴾ ، ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ ، ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ﴾.
ثوبُ الرياءِ يشِفُّ عمَّا تحتهُ
فإذا التْحفْت بهِ فإنَّك عاري
***********************************
الحياةُ الطيبةُ
من القضايا الكبرى المسلَّمةِ أنَّ أعظم هذه الأسبابِ التي أكتبُها هنا في جلبِ السعادةِ هو الإيمانُ باللهِ ربِّ العالمين ، وأنَّ السباب الأخرى والمعلوماتِ والفوائد التي جمعتْ إذا أُهديتْ لشخصٍ ولم يحصلْ على الإيمانِ باللهِ ، ولم يحُزْ ذلك الكنْز ، فلنْ تنفعه أبداً ، ولا تفيده ، ولا يتعبْ نفسه في البحثِ عنها .
إنَّ الأصل الإيمانُ باللهِ ربّاً ، وبمحمدٍ نبيّاً ، وبالإسلامِ ديناً .
يقولُ إقبالُ الشاعرُ :
إنما الكافرُ حيرانُ له الآفاقُ تِيهْ
وأرى المؤمن كوناً تاهتِ الآفاقُ فيِه
وأعظمُ منْ ذلك و أصدقُ ، قولُ ربِّنا سبحانه : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ .
وهناك شرطان :
الإيمانُ باللهِ ، ثمَّ العملُ الصالحُ ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ .
وهناك فائدتان :
الحياةُ الطيبةُ في الدنيا والآخرةِ ، والأجرُ العظيمُ عند اللهِ سبحانهُ وتعالى ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ .
********************************
البلاءُ في صالحِك
لا تجزعْ من المصائبِ ، ولا تكترثْ بالكوارثِ ، ففي الحديثِ : (( إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم ، فمنُ رضي فلهُ الرضا ، ومنْ سخط فَلَهُ السخطُ )) .
**************************************
عبوديةُ الإذعانِ والتسليمِ
ومنْ لوازمِ الإيمانِ أنْ ترضى بالقدرِ خيرهِ وشرِّهِ ، ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ . إنَّ الأقدار ليستْ على رغباتِنا دائماً وإنما بقصورِنا لا نعرفُ الاختيار في القضاءِ والقدرِ ، فلسْنا في مقامِ الاقتراحِ ، ولكننا في مقامِ العبوديِّةِ والتسليمِ .
يُبتلى العبدُ على قدرِ إيمانه ، (( أُوعكُ كما يُوعَكُ رجلان منكمْ )) ، (( أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ، ثمَّ الصالحون )) ، ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ ، (( مَن يردِ اللهُ بهِ خيراً يصبْ منهُ )) ، ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ ، ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ .
****************************************
مِن الإمارة إلى النجارة
عليُّ بنُ المأمون العباسي – أميرٌ وابنُ خليفة – كان يسكنُ قصراً فخماً ، وعندهُ الدنيا مبذولةٌ ميسَّرةٌ ، فأطلَّ ذات يومٍ منْ شرفةِ القصرِ ، فرأى عاملاً يكدحُ طِيلةَ النهارِ ، فإذا أضحى النهارُ توضَّأ وصلَّى ركعتين على شاطئ دِجلة ، فإذا اقترب الغروبُ ذهب إلى أهلِه ، فدعاهُ يوماً من الأيامِ فسألهُ فأخبره أن له زوجةً وأختين وأُمّاً يكدحُ عليهنَّ ، وأنه لا قوت لهُ ولا دخل إلا ما يتكسبُه من السوقِ ، وأنه يصومُ كلَّ يومٍ ويُفطرُ مع الغروبِ على ما يحصلُ ، قال : فهلْ تشكو منْ شيءٍ ؟ قال : لا والحمدُ للهِ ربِّ العالمين . فترك القصر ، وترك الإمارة ، وهام على وجههِ ، ووُجد ميتاً بعد سنواتٍ عديدةٍ وكان يعملُ في الخشب جهة خرسان ؛ لأنهُ وجد السعادة في عملِه هذا ، ولم يجدْها في القصرِ ، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ﴾ .
يذكِّرني هذه بقصةِ أصحاب الكهفِ ، الذين كانوا في القصور مع الملكِ ، فوجدُوا الضيقَ ، ووجدوا التشتُّتَ ، ووجدوا الاضطرابَ ؛ لأنَّ الكفر يسكنُ القصر ، فذهبوا ، وقال قائلُهم : ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً ﴾ .
لبيتٌ تخفقُ الأرياحُ فيهِ
أحبُّ إليَّ مِنْ قصْرٍ منيفِ
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ ...
والمعنى : أن المحلَّ الضيَّق مع الحبِّ والإيمانِ ، ومع المودَّةِ يتَّسعُ ويتحمَّلُ الكثير ، ((جفانُنا لضيوفِ الدار أجفانُ )) .
****************************************
منْ أسبابِ الكدرِ والنكدِ مجالسةُ الثقلاءِ
قال أحمدُ : الثقلاءُ أهلُ البدعِ . وقيلَ : الحمقى . وقيل الثقيلُ : هو ثخينُ الطبعِ ، المخالفُ في المشربِ ، الباردُ في تصرفاتِه ، ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ ، ﴿ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾ .
قال الشافعيَّ عنهمْ : إنَّ الثقيل ليجلسُ إليَّ فأظنُّ أنَّ الأرض تميلُ في الجهةِ التي هو فيها.
وكان الأعمشُ إذا رأى ثقيلاً ، قال : ﴿ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ﴾ .
لا بأس بالقومِ مِنْ طُولٍ ومِنْ قِصرٍ
جِسْمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ
وكان ابنُ تيمية إذا جالس ثقيلاً ، قال : مجالسةُ الثقلاءِ حمَّى الربْعِ، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ . ﴿ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ﴾ . ((مثلُ الجليسِ السيّئِ كنافخ الكيرِ)) . إنَّ مِن اثقلِ الناسِ على القلوبِ العرِيَّ من الفضائلِ الصغير في المُثُلِ، الواقف على شهواتِه ، المستسلم لرغباتِه، ﴿ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ .
قال الشاعرُ :
أنت يا هذا ثقيلٌ وثقيلٌ وثقيلْ
أنت في المنظرِ إنسانٌ وفي الميزان فِيلْ
قال ابنُ القيمِ : إذا ابتُليت بثقيلٍ ، فسلِّم له جسمك ، وهاجرْ بروحِك ، وانتقلْ عنهُ وسافرْ ، وملِّكْه أذناً صمَّاء ، وعيْناً عمياءَ ، حتى يفتح اللهُ بينك وبينه . ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ .
**********************************
إلى أهلِ المصائبِ
في الحديثِ الصحيحِ : (( منْ قبضتُ صفيَّهُ من أهلِ الدُنْيا ثمَّ احْتَسَبَهُ عوضتهُ منه الجنة )) . رواه البخاري .
وكانتْ في حياتِك لي عظاتٌ
فأنت اليوم أوعظُ منك حيّاً
وفي الحديثِ الصحيح : (( من ابتليتُه بحبيبتيْهِ ( أي عينيْهِ ) عوضتُه منهما الجنة )) . ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ .
وفي حديثٍ صحيحٍ : (( إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – إذا قبض ابن العبدِ المؤمنِ قال للملائكةِ : قبضتُم ابن عبدي المؤمنِ ؟ قالُوا : نعمْ . قال : قبضتُهمْ ثمرة فؤادِه ؟ قالوا : نعم . قال : ماذا قال عبدي ؟ قالوا : حَمَدَكَ واسترجَعَ . قال : ابْنُوا لعبدي بيتاً في الجنةِ ، وسمُّوه بَيْتَ الحَمْدِ )) . رواه الترمذي .
وفي الأثرِ : يتمنَّى أناسٌ يوم القيامةِ أنَّهمْ قُرِضوا بالمقارضِ ، لمِا يروْن منْ حُسْنِ عُقبى وثوابِ المصابين . ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ، ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ ، ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ ، ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ﴾ ، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ .
وفي الحديثِ : (( إنَّ عِظَمَ الجزاءِ منْ عِظمِ البلاءِ ، وإنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهمْ ، فمنْ رضي فلهُ الرَّضا ، ومنْ سخِط فلُه السخطُ )) . رواه الترمذي .
إنَّ في المصائبِ مسائلَ : الصبرَ والقدرَ والأجرَ ، وليعلمِ العبدُ انَّ الذي أخذ هو الذي أعطى ، وأنَّ الذي سلب هو الذي منح، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ .
وما المالُ والأهلون إلا ودِيعةٌ
ولابدَّ يوماً أنْ تُردَّ الودائعُ
************************************
مشاهد التوحيد
إنَّ منْ مشاهدِ التوحيدِ عند الأذيَّةِ ( استقبالِ الأذى من الناسِ ) أموراً :
أولُها مشهدُ العَفْوِ : وهو مشهدُ سلامةِ القلبِ ، وصفائهِ ونقائِه لمنْ آذاك ، وحبُّ الخيرِ وهي درجةٌ زائدةٌ . وإيصالُ الخَيْرِ والنَّفعِ له ، وهي درجة أعلى وأعظمُ ، فهي تبدأ بكظْمِ الغَيْظِ ، وهو : أنْ لا تُؤذي منْ آذاك ، ثمَّ العفو ، وهو أنْ تسامحهُ ، وأنْ تغفرَ له زلَّتهُ . والإحسانِ ، وهو : أنْ تبادله مكان الإساءةِ منه إحساناً منك ، ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ ، ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ .
وفي الأثرِ : (( إنَّ الله أمرني أنْ أصِلَ منْ قطعني ، وأنْ أعفو عمَّنْ ظلمنِي وأنْ أُعطي منْ حَرَمَنِي )) .
ومشهدُ القضاءِ : وهي أنْ تعلم أنه ما آذاك إلا بقضاءٍ من اللهِ وقَدَرٍ ، فإنَّ العبد سببٌ من الأسبابِ ، وأنَّ المقدر والقاضي هو اللهُ ، فتسلِّمَ وتُذْعن لمولاك .
ومشهدُ الكفارةِ : وهي أنَّ هذا الأذى كفارةٌ منْ ذنوبك وحطٌّ منْ سيئاتِك ، ومحوٌ لزلاّتِك ، ورفعةٌ لدرجاتِك ، ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ .
من الحكمةِ التي يؤتاها كثيرٌ من المؤمنين ، نَزْعُ فتيلِ العداوةِ ، ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ ، (( المسلمُ منْ سلِم المسلمون منْ لسانِه ويدهِ )) .
أيْ : أن تَلْقَى منْ آذاك بِبِشر وبكلمةٍ لينةٍ ، وبوجهٍ طليقٍ ، لتنزع منهُ أتون العداوةِ ، وتطفئ نار الخصومِة ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ .
كٌن ريِّق البِشْرِ إنَّ الحُرَّ شيمتُهُ
صحيفةٌ وعليها البِشْرُ عنوانُ
ومنْ مشاهدِ التوحيدِ في أذى منْ يؤذيك :
مشهدُ معرفةِ تقصيرِ النفسِ : وهو انَّ هذا لم يُسلَّطِ عليك إلا بذنوبٍ منك أنت ، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾
وهناك مشهدٌ عظيمٌ ، وهو مشهدٌ تحمدُ الله عليهِ وتشكرُه ، وهو : أنْ جعلك مظلوماً لا ظالماً .
وبعضُ السلفِ كان يقولُ : اللهمَّ اجعلْني مظلوماً لا ظالماً . وهذا كابنْيْ آدم ، إذ قال خيرُهما : ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
وهناك مشهدٌ لطيفٌ آخرُ ، وهو : مشهدُ الرحمةِ وهو : إن ترْحَمَ منْ آذاك ، فإنهُ يستحقُّ الرحمةَ ، فإنَّ إصراره على الأذى ، وجرأته على مجاهرةِ اللهِ بأذيةِ مسلمٍ : يستحقُّ أن ترقَّ لهُ ، وأنْ ترحَمَهُ ، وأنْ تنقذه من هذا ، (( انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً )) .
ولمَّا آذى مِسْطَحٌ أبا بكرٍ في عِرْضِهِ وفي ابنتِهِ عائشة ، حلف أبو بكرٍ لا ينفقُ على مسطحٍ ، وكان فقيراً ينفقُ عليه أبو بكرٍ ، فأنزل اللهُ : ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ . قال أبو بكرٍ : بلى أُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي . فأعاد له النفقة وعفا عنهُ .
وقال عيينهُ بنُ حِصْنٍ لعمر : هيهِ يا عمرُ ؟ والله ما تعطينا الجَزْلَ ، ولا تحكمُ فينا بالعدْلِ . فهمّ به عمرُ ، فقال الحرُّ بنُ قيس : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الله يقول : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ ، قال : فواللهِ ما جاوزها عمرُ ، وكان وقَّفاً عند كتابِ اللهِ .
وقال يوسُفُ إخوتِهِ : ﴿ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ .
وأعلنها في الملأِ فيمنْ آذاهُ وطرده وحاربه منْ كفارِ قريش ، قال : (( اذهبُوا فأنتمُ الطلقاءُ )) قالها يوم الفتحِ ، وفيِ الحديثِ : (( ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسه عندَ الغضبِ )) .
قال ابنُ المباركِ :
إذا صاحبت قوماً أهل وُدٍّ
فكْن لهمُ كذي الرَّحِمِ الشفيقِ
ولا تأخذْ بزلَّةِ كلِّ قومٍ
فتبقى في الزمانِ بلا رفيقِ
قال بعضُهم : موجودٌ في الإنجيل : اغفرْ لمنْ أخطأ عليك مرةً سبع مراتٍ ﴿ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾
أيْ : منْ أخطأ عليك مرةً فكرِّرْ عليه العَفْوَ سبع مراتٍ ، ليسلم لك دينُك وعِرْضُك ، ويرتاح قلبُك ، فإنَّ القَصَاصَ منْ أعصابِك ومنْ دمِك ، ومنْ نومِك ومنْ راحتِك ومنْ عِرضِك ، وليس من الآخرين .
قال الهنودُ في مثلٍ لهم : « الذي يقهرُ نفسه : أشجعُ من الذي يفتحُ مدينةً » . ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ﴾ .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire